إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه من كان مسافرا ولم يصل المغرب والعشاء فأدرك العشاء خلف إمام مقيم فالمختار أنه يصلي المغرب وحده، فإذا صلاها دخل معه في بقية العشاء، وذلك لاختلاف النية؛ فإن المغرب والعشاء متفاوتان بينهما فرق في عدد الركعات. هذا الذي نختاره. وأجاز بعض المشائخ أنه يدخل معهم بنية المغرب، فإذا صلوا ثلاثا فارقهم وتشهد لنفسه وسلم، ثم صلى العشاء، ولكل اجتهاده       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه.
شرح كتاب العظمة المجموعة الثانية
108758 مشاهدة
شُبَهٌ حول نعيم الجنة

...............................................................................


نأخذ من هذه الأحاديث أن الله تعالى وعد عباده المؤمنين بهذه الجنة؛ التي هي دار الكرامة، وأن أهلها هم الذين شمروا في طلبها، وهم الذين أرخصوا أنفسهم وأموالهم رجاء الحصول عليها؛ ليكونوا من أهلها وليحظوا بهذا الثواب، فإن هذا الثواب ثواب عظيم، دافع لكل من سمعه ولكل من قرأه إلى أن يأتي بما يقدر عليه حتى يحصل على هذا الأجر العظيم.
قد ورد في هذه الأحاديث شيء من المبالغات، ولكن نعتمد ذلك، أو نقول: الله تعالى قادر على كل شيء. إذا قيل: كيف يكون أدنى أهل الجنة من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام؟
معلوم أن الأرض قد تقطع في سنوات قليلة، يعني: بالمشي المعتاد على الأرجل أو على الدواب أنه يقطع... يمكن أن يقطع الأرض كلها في عشرين سنة أو نحوها، فكيف مع ذلك يكون أدنى أهل الجنة ملكه وأهله مسيرة ألف عام، وأن هذا هو أدنى أهل الجنة؟!
والجواب أن نقول: إن الله على كل شيء قدير، وقد أخبر الله عن الجنة؛ عن عرضها: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إذا كان هذا عَرْضُها فكيف يكون طولها؟! وأيضا أن الله واسع الفضل، يقدر على أن يوسع هذه الأرض وأهلها ومن عليها، ويوسع السماوات، ويوسع الجنة إلى أن تتسع لمن قدر الله له أن يكون من أهل الجنة, ويحصل عليها، ولو ما إلى عشرات ما نعرفه، عشرات أضعاف ما نعرفه وأضعاف أضعافها. قد ذكر الله تعالى أن الجنة موجودة الآن؛ لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى .
رَآهُ الضمير قيل: إنه إلى الله يعني: رأى ربه، وقيل: إنه إلى الملك يعني: رأى الملك الذي هو جبريل في صورته التي خلق عليها.
نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى لما أسري به رأى سدرة المنتهى، وهي التي ينتهي إليها ما يصعد من الأرض، يقول: رأيت أن أوراقها مثل آذان الفيلة وأن نبقها مثل قلال هجر نبْقها يعني: ثمرها مثل القلال؛ القلة هي الزير الذي يبرد فيه الماء ونحوه، وهذا رأى سدرة المنتهى، ورأى أيضا عندها جنة المأوى، وذكر الله أن جنة المأوى في السماء السابعة فوق السماوات، وسمعنا أن الجنة فوق السماوات، وأن النار تحت الأرض السابعة، أو حيث شاء الله تعالى، فإن الله واسع الفضل، وخلقه لا يحيط به غيره.
وكذلك أيضا عرف أن هذا النعيم الذي هو ثواب لأهل الجنة أنه صغير إلى جانب حَوْلِ الله تعالى؛ فإنه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إنما أمره أن يقول: كُنْ فَيَكُونُ لا يصعب عليه شيء، ولا يحتاج إلى عمليات أو نحو ذلك. فخلقه لهذه الجنة بكلمة:كن, وكذلك كل ما فيها، وكذلك إيجاده لهذه الموجودات إنما هو بقوله: كن؛ فقادر على أن يُوجد هذه الجنة في وقت قصير، وفي لحظة من اللحظات.
ثم جمهور الأمة على أن الجنة موجودة الآن، والدليل قول الله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ يعني: هذه الجنة أعدت وهيئت؛ دليل على أنها معدة الآن، وكذلك قول الله تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أعدت يعني: هيئت فهي موجودة مهيأة بما فيها. وقد أنكر بعض المبتدعة وجودها، وقالوا: لا فائدة في بقائها الآن وهي مغلقة الأبواب، لا فائدة في خلقها الآن قبل أن يخلق أهلها أو قبل أن يوجدوا؛ وذلك لأنها تبقى معطلة؛ تبقى أنهارها لا يُنتفع بها، وكذلك أشجارها وقصورها وحورها وثمارها وزينتها، فما الفائدة؟ هكذا عللوا، وكذلك يقولون: إن الله تعالى قال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فلو كانت موجودة لحكم عليها بالفناء، لا بد أن تفنى، وأن يفنى ما فيها من النبات ومن الأشجار ومن القصور ومن الأنهار ومن الحور ومن الزينة وما أشبه ذلك. هكذا قال هؤلاء.
وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أدخل الجنة؛ قيل: إنه دخلها ليلة الإسراء، وثبت أيضا أنه: رأى في المنام أنه أُدخل الجنة؛ فيقول: إني دخلت الجنة وإذا قصر عالٍ قلت: لمن هذا؟ قالوا: لعمر بن الخطاب يقول: فذكرت غيرتك، فبكى عمر وقال: أعليك أغار؟! .
فهذا دليل على أنها موجودة؛ لأنه قد دخلها ولو كان ذلك رؤيا منام؛ فإن رؤيا الأنبياء وحي، ودليل على أن الله أوجدها، ولا مانع من أن تبقى إلى أن يبعث لها أهلها، وقد ثبت أيضا أن أرواح الشهداء؛ الذين قتلوا في سبيل الله، أنهم في الجنة، قال الله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ فإذا كانوا في الجنة؛ فإنه دليل على أنها موجودة الآن.